هاني الترك – OAM – استراليا اليوم :
منذ حوالي مئتين وثلاثين عاماً رست السفن البريطانية المحملة بالسجناء على شواطئ سيدني.. حيث استُخدمَت القارة الاسترالية في ذلك الوقت كمنفى للسجناء البريطانيين.. وكان آرثر فيليب وهو أول حاكم للولاية قد سَمّى المنطقة التي نزل فيها “سيدني كوف”.. نسبة إلى اللورد سيدني وزير الداخلية البريطاني آنذاك.
بدأ السجناء والمستوطنون حياتهم الجديدة بشقّ الطرق وبناء الجسور والمباني السكنية وزراعة الأراضي.. وقد لاقوا في بدء حياتهم الكثير من الأهوال والصعوبات مثل المجاعات لعدم نجاح المحاصيل الزراعية.. وشحّت مياه الشفة لندرة الينابيع العذبة.. إضافة إلى عامل الطبيعة القاسية وتمردات السجناء من حين الى آخر.. ولولا وصول المعونات الاقتصادية والمعدات الصناعية ومواد التغذية من الدولة الأم بريطانيا.. لكانت أخفقت عملية الاستيطان ومات الرعيل الأول من السجناء والمستوطنين نتيجة تفشي الأمراض والمجاعة والعطش.
واستمرت الأحوال المعيشية تتأرجح بين علو وهبوط حتى نمت المستوطنة.. وأعلنت عام 1842 مدينة باسم سيدني.. في هذه السنة تم تأسيس أول مجلس تشريعي للولاية.. مكوّناً من 36 عضواً منهم 24 منتخباً و12 معيناً من قبل الحاكم العام.
في تلك الحقبة من الزمن كان قد علا نجم سجين في الولاية يدعى وليم ردفرن.
وتعود قصة ردفرن إلى سنة 1800 عندما كان يعمل طبيباً في الأسطول البحري البريطاني.. حيث قام مع مجموعة من الجنود البحريين بالتمرد ضد قبطان الأسطول.. اعتراضاً على المستوى المعيشي والأجور الهابطة لطاقم البحرية.. حكمت المحكمة عليه بالإعدام شنقاً.. ولكن تم بعدها تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد على أن يقضي مدة العقوبة في أستراليا.
وصل ردفرن إلى سيدني عام 1801.. وكان أول طبيب مدني يصل إلى المستوطنة.. عمل بوظيفة طبيب معالج للسجناء في منطقة نورث فولك حيث عاد بعدها إلى سيدني.. وأُسست أول عيادة خاصة لممارسة الطب في الولاية.. عقد له ثلاثة أطباء عسكريين من السلاح البحري امتحاناً طبياً.. نجح فيه ليكون أول طبيب خريج أستراليا.
أصبح ردفرن صديقاً خاصاً للحاكم ماكواري.. حيث انخرط في مجتمع النخبة في سيدني الذي تكون من المستوطنين غير السجناء.
لاقى من هؤلاء المعارضة والرفض لأنه كان مصنفاً كسجين وليس كمستوطن.. وبرغم ذلك عين ماكواري الطبيب ردفرن قاضياً في المحكمة واستمر في منصبه سنة واحدة.. حتى أصبح بيج حاكماً للولاية بدلاً من ماكواري.
على أي حال كان ردفرن خلال تلك السنوات قد جمع المال.. وامتلك منزلاً كبيراً وسط مئة فدان من الأراضي الزراعية.. التي بنيت محلها محطة السنترال الآن.. والتي سميت منطقة ردفرن نسبة إليه.
ردفرن هو أحد مؤسسي بنك نيو ساوث ويلز الذي تغير اسمه فيما بعد إلى ويستباك.
والذي حدث أن الحاكم بيج أصدر قراراً يقضي بعدم صلاحية أي سجين سابق في الولاية لامتلاك أرض أو إعطاء أي شهادة في المحكمة.
. بلغ عدد المساجين في سيدني في ذلك الوقت 130415 سجيناً وعدد المستوطنين 2436 مستوطناً فقط.. وذلك طبقاً لإحصاء جرى عام 1842.
غادر ردفرن سيدني إلى لندن مطالباً البرلمان البريطاني بإصدار قانون يقضي باعتبار السجين في الولاية الحاصل على عفو من حاكمها مساوياً في مفعوله أمر الملك.. وفعلاً حصل ردفرن على هذا الأمر وأصبح بذلك مستوطناً حراً في الولاية.
كانت مشكلة المياه من حيث قلّتها هي مشكلة المشاكل في القارة منذ استيطانها.. فقد واجهت سيدني شحاً في مياه الشرب وتلوثها.. كان يستخدم جدولٌ للشرب إلا أنه كان ملوثاً بسبب أن دماء المسلخ كانت تصب فيه.. عدا تنظيف الملابس القذرة فيه.. ولإيجاد حل لمشكلة مياه الشفة دُعي متخصص من لندن اسمه جون بيزبيه الذي بنى سداً للمياه في المنطقة التي تعرف الآن باسم سنتينيال بارك.. وقد واجه ذلك المشروع صعوبات جمّة.. أهمها التكلفة الباهظة وامتناع السجناء عن العمل.. برغم من أن السجين الرافض للعمل أو المخل بالقانون يجلد جلدات كثيرة كعقاب له.. وقد وصلت في بعض الحالات إلى ألفي جلدة للشخص الواحد.. حتى لم تبقَ من جسمه منطقة واحدة لم تطلها سياط الجلاد.. وتحول جسده إلى لون أحمر دامٍ.. وبعدما انتهى العمل من بناء السد عام 1837 تدفق الماء النقي الصالح للشرب إلى منطقة سيدني.
هكذا وضع السجناء حجر الأساس في بناء سيدني مع بعض المستوطنين وأسهموا في تنميتها قبل أن يتوقف تدفق المساجين ويحل محلهم المستوطنون والمهاجرون..
واصلوا مهمة تعمير سيدني لتصبح من أجمل مدن العالم.. إنه التاريخ.