كما أنّ قلوبنا مع الشعب السوريّ الذي سطر يوم الثامن من كانون الأول 2024، ملحمة انتصار، وحقق ما كان حلماً بعيد المنال في نظر الكثيرين، فإنّها أيضاً مع آلاف المعتقلين الذين عانوا الأمرّين في سجون التعذيب والإذلال. والصور التي وردت إلينا من داخل السجون: سجن حمص، سجن سعسع، سجن المزّة، وسن صيدنايا… وغيرها، تقشعر لها الأبدان. وقد أعادت إلينا ذكريات أليمة، عن أصدقاء لنا، وجيران، ورفاق طفولة، اختفوا بسحر ساحر ، وأغلبهم لا يعرفون ماذا ارتكبوا، ومن بينهم عمّال، وسائقو شاحنات، وسيارات أجرة، لم ينتموا يوماً إلى حزب، لكن قدرهم كان أن يموتوا ألف مرّة كل يوم في الأقبية العفنة تحت الأرض، حيث لا يوجد نور شمعة.
من أفظع ما رأينا، لقطات بثها مراسل الجزيرة عمر الحاج لأربعين جثّة في مستشفى حرستا العسكري بريف دمشق، كانت قد وصلت للتو من سجن صيدنايا، المسلخ البشري، وتلك الجثث اقتُلعت عيونها. وكانت سوداء اللون، بسبب الفشل في حفظها لانقطاع التيار الكهربائي.
وانتشرت على مواقع التواصل صور مباشرة لخروج نساء وأطفال من سجن صيدنايا في سوريا بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد. وظهر في تسجيل فيديو مسلحون من فصائل المعارضة يفتحون عدة زنازين بداخلها نساء، وطلبوا منهن الإسراع والخروج. وعندما كانت تخرج إحدى النساء المعتقلات، خرج أمامها طفل صغير.
وكانت إدارة السجن تتخذ إجراءات عقابية بحق السجناء، إذ يتم إنزالهم من الغرف الكبيرة العامة إلى الغرف الانفرادية إذا طلبوا ماء للشرب أو أدوية أو طعاماً. وكان المعتقلون يعيشون أوضاعاً سيئة إلى جانب الروائح الكريهة بسبب مياه الصرف الصحي والرطوبة المتفشية.
وكان يتمّ ضرب السجناء على أيديهم وأرجلهم، ويقدمون إليهم كسرة خبز لسد رمقهم، وبينما هم يأكلونها، كانت الفئران والجراذين تحيط بهم من كل جانب.
وكان المساجين يحفرون على جدران السجن أوقات الدخول إليه باليوم والساعة، وموعد الإعدام أيضاً. وتشهد الجنازير والكلاليب والحلقات الحديدية، وجميع أنواع الأدوات الخاصة بالتعذيب، وكذلك حبال المشانق الملطخة بالدماء، على هميّة السجانين الذين فروا من السجن، تاركين الابواب مقفلة، وكأنّهم لم يشبعوا من الانتقام، حتى في اللحظات الأخيرة التي سقط فيها النظام.
هذه التجارب التي لا يرضى بها مخلوق على وجه الأرض، إلا إذا كان من فئة السجانين ذاتها، أو من الأحزاب التي ما زالت تجاهر بأن احتقار الإنسان وتعذيبه وقتله أمر مشروع، تسوّغه الظروف السياسيّة. وكلّما تحدثت أمام هؤلاء عن الظلم، يجيبون: “بيستاهلو”!
من الصعب تصور السجن الصغير “صيدنايا” وأخوته، من غير تصور السجن الكبير، الذي نتمنى كلّنا أن تفتح أبوابه للشمس، والهواء، والحرّيّة. كما نتمنّى، وفي أقرب وقت، أن يتم تأمين المساجين من جنسيات عربية، لبنانيين، وعراقيين، وفلسطينيّين، وجزائريّين… ليعودوا إلى بلدانهم. وبعضهم يظن أهلوهم أنهم ماتوا، كما لا يعرف آخرون أن أبناءهم في السجن، فقد تبخروا كما يتبخّر الماء، ولا معلومات عن مصائرهم.
وكما أنّ فرحنا غامر بمستقبل سوريا الحبيبة، وبمستقبل الشرق الأوسط كلّه، وبتحرّر السوريين من الماضي الأليم، فهو غامر أيضاً بأن لبنانيين معتقلين، من جميع المناطق، قد بدأوا يتوافدون إلى قراهم ومدنهم، وكان النظام السابق، ومعه لبنانيون أيضاً، من مراكز سياسية مهمة، ينفون وجود أي معتقل في السجون السوريّة.
هؤلاء الذين دخلوا إلى السجن الأحمر وهم مراهقون، وخرجوا بعد أربعين سنة، يستحقون منّا وقفة احترام، ومن حكومتنا الاهتمم بم، وتأمين معاش لهم، وربّما تعويض عن الخسارة الهائلة التي خسروها. والله كبير! ورحمته أوسع من قضبان الحديد!
ج.د.