من الواضح أنّ الذين يخوّنون الآخر، لديهم مشكلة نفسيّة حادّة، وخصوصاً أولئك المحامين الذين يقفزون إلى واجهة المشهد، ويصوّرون أنفسهم على أنهم ملكيّون أكثر من الملك. لقد وصل التخوين في لبنان إلى ما يشبه الموضة، ولم يحدث في تاريخ الأمم أن وصل عدد “الخائنين” إلى هذا الحدّ، ولو وُضعوا في معسكر في الصحراء لما اتّسع لهم. فكلّ من يعارض، أو يرفض، أو يخالف، أو يقوم بعمل لا يوافق عليه أصحاب الأمر والنهي، خائن.
وقضيّة ليال الاختيار، الزميلة في قناة “العربية”، لا تخرج عن سياق الواقع الذي نعيشه في بلادنا منذ عقود. وقد طالت تهمة الخيانة العديد من الشخصيّات، وتعرّض كثيرون للتصفية الجسديّة، ونجا آخرون بأعجوبة. كلّ ذلك لأنهم “خانوا” بحسب المقاييس التي وضعها طرف، وبموجبها يخضع كلّ مواطن لفحص دم، لمعرفة مستوى انضوائه ووفائه للقضيّة التي شكلت – وحدها- محور الوطنيّة الحقيقيّة.
ولو كان هناك نظام صحيح، ولم يجرِ تقسيم لبنان إلى كانتونين، لكلً واحد منهما قانونه، وطريقة عيشه، لكانت تغيّرت مفاهيم، ولشعر الناس بالعدالة، ولرأوا الجميع يخضعون للأنظمة كأسنان المشط، من دون تميز.
بالأمس جلس المفاوضون اللبنانيون والإسرائيليون في الناقورة، مع نظرائهم الإسرائيليّين، للتفاوض على الترسيم البحريّ والبرّي، ونجحت المفاوضات، بحسب المنطق الرسمي اللبناني، وكانت “الهيصة” لأن لبنان دخل في نادي الدول النفطيّة، وأصبح ممكناً بأموال النفط أن نسدّد الديون الباهظة، ونعيد دورة الحياة الاقتصادية، ونخرج من الضوائق المعيشية التي يرزح تحتها الشعب اللبناني. والمسؤولون العرب يستقبلون نظراءهم الإسرائيليّين في العواصم “على عينك يا تاجر”، ثم يأتي هؤلاء المسؤولون إلى لبنان في زيارات رسمية وغير رسمية، ولا أحد يرشقهم بوردة. أما إذا جلس لبناني في دولة أخرى في الحافلة إلى جانب إسرائيلي، من غير أن يعرف هوّيته، فذلك خيانة، وتستوجب المحاكمة، وطبعاً أمام محكمة عسكرية، هي في كل دول العالم لمحاكمة العسكر فقط، إلا في لبنان حيث بلاد العجائب، والفذلكات الغريبة التي وضعت أساساً لقهر فئة من الشعب.
إن التخوين ليس تهمة فقط، ولا توصيفاً غير أخلاقي، بل هو أمر غير مباشر بالقتل، فيسكون شرعيّاً اغتيال الخائن… ولذلك رفع المتضامنون مع الإعلامية ليال الاختيار في وسط بيروت، شعار “التخوين تمهيد للاغتيال”. وهذا الشعار لم يأت من فراغ، بل بعد تجارب طويلة في التصفيات الجسديّة، والاغتيالات التي لم يُعرف منفّذوها حتى الآن، فيما الشبهات كثيرة، والقرائن بعدد شعر الرأس. وهناك ملفّات تتتعلق بجرائم معيّنة خُتمت بالشمع الأحمر بعد دقائق من حصول القتل، وكأنّ من المحظور التحقيق فيها والكشف عن ملابساتها.
نحن لا نؤيّد أن تجري ليال الاختيار مقابلة مع أفيخاي أدرعي، ولكننا نطالب بالمساواة لها مع المجرمين والقتلة، وبعضهم معروفون بالاسماء، فكما أولئك من جنس الملائكة، ومحظور ملاحقتهم، فلتكن هي كذلك، بحكم المساواة في وطن المساواة.
ج.د