
بقلم رئيس التحرير / سام نان
في عالمٍ يزداد اتساعًا وتداخلاً، لم تعد المجتمعات تعيش في عزلة كما في الماضي. لقد أصبح من المعتاد أن نعيش في بيئات يشاركنا فيها الآخرون من خلفيات مختلفة، سواء في العرق أو الدين أو اللغة أو الثقافة. ومع هذا الانفتاح الكبير، تزداد الحاجة إلى ترسيخ قيمة إنسانية أساسية لا يمكن لأي مجتمع أن يستقر بدونها، وهي قبول الآخر.
قبول الآخر لا يعني فقط احترام وجوده، بل هو اعتراف بإنسانيته، بخصوصيته، بحقه في أن يفكر ويؤمن ويعيش بطريقة قد تختلف عن طريقتنا. هذه القيمة تتجاوز مجرد التسامح، الذي يحمل أحيانًا في طياته نبرة تفوق ضمني، إلى مساحة أعمق من التفاهم والتقدير المتبادل. إننا لا نعيش في عالم مثالي يشترك الجميع فيه بنفس الرؤية، بل في عالم غني بالتنوع، وهذا التنوع ليس مصدرًا للتهديد، بل مصدر قوة وفرصة لاكتشاف آفاق جديدة في الفكر والسلوك.
الاختلاف جزء من طبيعة الكون. فكما لا تتشابه بصمات الأصابع، لا تتطابق العقول ولا تتناسخ التجارب.
ولذلك، فإن فرض التماثل أو محاربة التنوّع لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام والصراع. أما قبول الآخر، فهو السبيل إلى بناء مجتمعات أكثر تماسكًا وقدرة على مواجهة التحديات. ففي المجتمع الذي يحترم الاختلاف، تزدهر الإبداع، وتتوسع آفاق الحوار، وتُبنى الجسور بين الثقافات.
لكن مع الأسف، لا يزال كثيرون يتعاملون مع الاختلاف كأنّه تهديد. وتعود جذور هذا الخوف إلى عوامل عدّة، أبرزها التنشئة الاجتماعية التي تغذي الصور النمطية، والخطابات السياسية والدينية المتشددة، وبعض وسائل الإعلام التي تزرع الشك والعداء بدلًا من الفهم والانفتاح. في بيئات كهذه، يصبح قبول الآخر فعلاً شجاعًا، يحتاج إلى وعي وثقافة وممارسة مستمرة.
من المهم أن ندرك أن القبول لا يُطلب فقط من الأغلبية تجاه الأقليات، بل هو مسؤولية متبادلة. فكل فرد، سواء كان منتميًا لأغلبية مهيمنة أو لأقلية مهمشة، عليه أن يراجع نفسه ويُطوّر من قدرته على التفاعل مع المختلفين عنه. فالمجتمع المتماسك ليس ذاك الذي يفرض شكلاً واحدًا من الهوية، بل الذي يحتضن الهويات المتعددة ويخلق منها وحدة إنسانية.
قبول الآخر يبدأ من الفرد، من طريقة تعاملنا مع زملائنا في العمل، وجيراننا، والغرباء في الشارع. يبدأ حين نكفّ عن إطلاق الأحكام السريعة، وحين نحاول أن نفهم قبل أن نرفض.
يبدأ حين نُربّي أبناءنا على احترام الآخرين، لا على الخوف منهم أو ازدرائهم. يبدأ حين نُعيد النظر في مناهج التعليم، ونحرص على أن تعكس حقيقة التنوّع بدلاً من تكريس النمط الواحد.
القبول لا يلغي النقد، لكنه يجعل من النقد حوارًا لا خصومة. ويجعل من الخلاف مساحة للتفكير لا معركة للسيطرة. وعندما نصل إلى هذه المرحلة من النضج الاجتماعي، فإننا نكون قد وضعنا الأساس الحقيقي لمجتمعات عادلة، متوازنة، وأكثر إنسانية.
إن المستقبل لا يمكن بناؤه على الإقصاء. المجتمعات التي تقصي المختلف، سرعان ما تُصاب بالجمود وتفقد قدرتها على التجديد. أما المجتمعات التي تحتضن التنوّع، فإنها تكون أكثر قدرة على الإبداع، وأقوى في مواجهة الأزمات، وأكثر مرونة في التعامل مع التغيّرات العالمية.
ولذلك، فإن قبول الآخر ليس رفاهية فكرية، ولا شعارًا مثاليًا، بل هو خيار استراتيجي لمستقبل أكثر سلامًا. وفي زمن تتصاعد فيه النزعات القومية والعنصرية والطائفية، يصبح التمسك بهذه القيمة ضرورة أخلاقية وسياسية في آنٍ واحد.
لا يوجد إنسان بلا قيمة. ولا يوجد اختلاف يُنقص من إنسانية أحد. وكل فرد، أياً كان أصله أو دينه أو ثقافته، له الحق في أن يعيش محترمًا، آمنًا، مقبولاً. وما لم نؤمن بهذا إيمانًا حقيقيًا، فإننا سنظل نعيش في دوائر مغلقة من الشك والخوف والكراهية.
وحين نفتح قلوبنا للآخر، فإننا لا نُعطيه فقط، بل نأخذ منه أيضًا. نأخذ منه تجربة، ورؤية، وإنسانية. نأخذ منه القدرة على تجاوز حدود الذات نحو أفق أرحب. وفي النهاية، فإن قبول الآخر هو قبول للذات، وتحرّر من الخوف، واحتفاء بالحياة بكل وجوهها.